«أول مرة في شرم؟»، يسأل الحمّال في المطار. سؤاله لا يركز على الزيارة الأولى لمصر كبلد سياحي غني بالآثار والتاريخ والحضارة، بل فقط على هذه المساحة من أرض مصر. كأن شرم الشيخ أرض منفصلة بذاتها. كأن ثورة 25 يناير لم تصل إليها. كأن هذه القطعة من البلاد تعيش في بقعة أخرى بعيدة كل البعد عن السياسة والأنظمة ومطالب الشعوب. السؤال ذاته سيتكرر مراراً منذ لحظة الوصول إلى مطار شرم الشيخ إلى حين مغادرته. المطار تم تحديثه منذ فترة ليست ببعيدة، قال أحد الذين رافقونا في حملة «في حب مصر» التي نظمتها شركة «مصر للطيران» وسفريات «الجزيرة». وقد هدفت الحملة التي ضمت وكلاء سفر لبنانيين وعددا من الزملاء الصحافيين إلى وضع شرم الشيخ مجدداً تحت الضوء بعد الأحداث الأخيرة التي مرت بها مصر. اللافتة الكبيرة أمام بوابة الخروج من المطار ترحب بضيوف «مدينة السلام». والترحيب بلغات ثلاث: العربية، والإنكليزية، والروسية. فاللغة الأخيرة معتمدة بكثرة في هذا المكان، لاسيما أن السياح الروس يحلون في المرتبة الأولى من بين الجنسيات الأجنبية التي تزور هذه المنطقة، والأهم من بينهم هم سكان العاصمة موسكو الذين يملكون الإمكانات المادية التي تسمح لهم بالسياحة ويسميهم المصريون بالـ«موسكوفيتش». في شرم الشيخ يمكن بسهولة الانتباه إلى أن موظفات الاستقبال الشقراوات في الفنادق والمنتجعات الكبيرة هن في غالبيتهن من الجنسية الروسية أو من جنسيات أوروبا الشرقية. دليلنا المصري يقول إن «أرض السلام» شهيرة بمؤتمراتها. فشرم الشيخ مكان انعقاد أكبر مؤتمرات السلام في المنطقة. يضيف: «أنتم هنا كأنكم في أوروبا». حتى صورة الرئيس المخلوع حسني مبارك العملاقة ملوحاً بيده ما زالت في مكانها في الباحة الخارجية المجاورة للمطار الذي هبطنا فيه. لم يأت من يطالب بنزعها من مكانها. على يسار الطريق الإسفلتي الحديث باتجاه «حياة ريجنسي»، الجدران مرتبة بأناقة لافتة. خلف هذه الجدران تتجاور كبرى المنتجعات والفنادق مع البحر الأحمر، حيث يمارس الهواة رياضتي السباحة والغوص. أما من ناحية اليمين فيرتفع مدٌّ من الجبال الجرداء الشاهقة التي لا ينتهي عندها النظر، حيث يمارس هواة ركوب الصحراء رياضة السفاري على الدراجات النارية بالإطارات الأربعة. يشير دليلنا الشاب إلى مسجد حديث. يقول إن هذا المسجد تم تشييده بناء لطلب مبارك الذي كان يقضي إجازات العيد في شرم الشيخ. ثم يعود ليشير بإصبعه إلى أكبر كازينو في المدينة، التي تتواجد فيها عدة كازينوهات. يؤكد مرة جديدة على الفكرة التي بدأت تصبح قناعة منذ الوصول: «هنا لا ازدحام مثل القاهرة ولا تلوّت. هنا دنيا مختلفة»، فمعظم الأبنية في شرم الشيخ لا تزيد عن طابقين باستثناء فندق «شيراتون» الذي يقع خارج «خليج نعمة» أو «نعمة باي» ويتألف من عدة طوابق. السائق العشريني الشاب المتحدّر من منطقة عابدين في القاهرة، والذي كان يقود سيارة المنتجع المشابهة لسيارات نوادي الغولف، لا يستغرب تواجد مبارك في أرض شرم الشيخ «فهو رئيس سابق». معظم الشبان العاملين في شرم الشيخ هم من العمال الآتين من المحافظات المصرية المتعددة حيث يداومون أياما طويلة من الشهر قبل أن يحصلوا على إجازاتهم. أما الفئة الأخرى من السكان فهم البدو. بعد أحداث الثورة ومع تراجع عدد السياح، تغير جدول عمل الموظفين في المرافق السياحية وبات غير ثابت. سائقنا الشاب الذي توجب عليه أن يقلنا وزملاء له من «اللوبي» إلى غرفنا، وبالعكس، طوال الوقت بسبب اتساع مساحة منتجع «حياة ريجنسي» شارك في صناعة الثورة في ميدان التحرير. الازدحام في منطقة «نعمة باي» الشهيرة ملحوظ برغم تراجع عدد السياح على ما يقول العارفون. شوارعها تضج بحياة الليل. فيها مقاه مصرية ومطاعم وجبات سريعة تابعة لشبكات عالمية ومرابع ليلية أجنبية ومحال تذكارات وأخرى لبيع الكحول وسوبرماركت وحانات وفنادق. معظم سحنات السياح شقراء. الفتيات من بينهم يتجولن على راحتهن بثياب خفيفة تكشف الكثير من المفاتن من دون أن يتعرض لهن أحد بمضايقات، فعين الشرطة لا تغفو. الشبان المصريون العاملون في المقاهي بجلابيات تقليدية يرقصون سوياً على إيقاع موسيقى غربية. يصفقون بأيديهم ويرفعون أرجلهم بحركة واحدة. يحاولون أن يسوقوا للمقهى الذي يعملون فيه بطريقة تخلط بين الشرقي في اللباس والغربي في الأداء. رفض مصطفى، صاحب محل التذكارات في «نعمة باي» أن يبيع الفناجين الزجاجية الشفافة التي تحمل دمغة العلم المصري بأقل من عشرة جنيهات مصرية. شرح بأن هذه الفناجين تستخدم في شرب ماء زمزم المباركة. عندما لم يلق حماساً على وجه الزبون المفترض غيّر وجهة الاستعمال على الفور. أوضح أن الفناجين الطويلة تستخدم أيضاً في شرب الفودكا الروسية. فانفجر الزبون ضاحكاً على التغيير «النوعي» في الاستخدام. ومصطفى هذا شخصية طريفة جداً ويحمل الكثير من لطافة ودعابة المصريين. كلما قام الزبون بتخفيض ثمن الفنجان جنيهاً خبأ مصطفى وجهه بين يديه تعبيراً عن الكارثة الكبرى التي حلّت به. لكن الزبون مجادل محنك. كلما وافق مصطفى على تخفيض جنيه واحد من القيمة طالب الزبون بتخفيض السعر جنيهاً آخر. إلى أن انتهت الصفقة التي بدأ ثمن الفنجان فيها بعشر جنيهات بجنيهين للفنجان الواحد مع وداع بابتسامة لمصطفى الذي أقسم ذات اليمين وذات اليسار أنه شارك في الثورة المصرية من دون أن يغادر شرم الشيخ! صوّت علاء، سائق الباص الذي تولى نقلنا خلال أيامنا الأربعة في شرم الشيخ، بـ«نعم» على التعديلات الدستورية. علاء الذي يتحدر من محافظة الشرقية اتخذ هذه الوجهة في التصويت لأنه «عايزين البلد يمشي». يقول إن لافتة «الشرطة في خدمة الشعب» عادت إلى أقسام الشرطة بعدما غابت طويلاً لصالح لافتة أخرى هي «الشعب والشرطة في خدمة الوطن».
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق