مهاتير محمد والوصايا العشر

على مدى خمسة أيام تردد اسم د. (مهاتير محمد) رئيس وزراء ماليزيا الأسبق على ألسنة العامة والخاصة، وكان مادة ثرية لجميع وسائل الإعلام، حيث زار مصر يوم الاثنين الموافق 27 يونيه 2011 وغادر يوم الخميس الموافق 30 يونيه 2011، وقد تسابقت معظم القنوات الفضائية لاستضافته كما عُقد له العديد من المؤتمرات بهدف تحقيق أكبر استفادة من خبرته في النهوض ببلاده، حيث يعتبر مهاتير محمد قائد تجربة ماليزيا وباني نهضتها الحديثة والذي تحولت في عهده من دولة متخلفة تعتمد على تصدير المواد الأوليه إلى دولة صناعية متقدمة تتقدم دول النمور الأسيوية وتتسابق مع الدول المتقدمة على جميع المستويات.
فخلال فترة تولى مهاتير حققت ماليزيا معدلات نمو ثابتة وصلت إلى 8-9 % على مدى عشر سنوات متتالية كما تضاعف متوسط دخل الفرد الماليزي 17 مرة من 600 دولار عام 1980 إلى أكثر من 10 آلاف دولار عام 2001، وارتفعت قيمة الصادرات الماليزية من 5 مليار دولار عام 1980 إلى نحو 100 مليار دولار في عام 2002.
وتأتى أهمية زيارة مهاتير محمد من أهمية المرحلة التي تمر بها مصر الآن وتحتاج فيها الاطلاع على تجارب ناجحة تستقى منها رؤية للمستقبل.
وقد التقى د. مهاتير مع كل من أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ورئيس وزراء مصر د. عصام شرف والكثير من العلماء والمفكرين، وقد قمنا برصد جميع أرائه وتصريحاته التي أدلى بها من خلال هذه اللقاءات التي عقدها، وخلصنا إلى مجموعة من الوصايا الهامة ونستطيع من خلالها بناء رؤية لسياساته في النهوض ببلاده وبالتالي الاستفادة منها في مصر.

1- أكد أن مصر تحتاج إلى تكاتف جهود أبناءها لعبور هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها، وقال إن المظاهرات تبقى هي الحل الأخير التي يجب اللجوء إليها لأنها تؤدى إلى عدم الاستقرار، وبالتالي عزوف المستثمرين عن الاستثمار في مصر مما يترتب عليه زيادة البطالة خاصة مع عودة العمالة المصرية من ليبيا، مما يجعل تحقيق التنمية الاقتصادية ضربا من المستحيل.
وبالتالي كان أول قرار سيتخذه لو كان مكان د. عصام شرف هو تهدئة الأجواء المشحونة بالتظاهرات في كل مكان لما يترتب عليها من خطر يهدد أمن واستقرار مصر.
أما عن أول قرار أخذه عندما تولى رئاسة الوزراء هو العمل على تغيير طباع الناس حيث أصدر قراره بالذهاب إلى العمل مبكراً ولترسيخ معنى النظام عند الناس كان يشترك في معسكرات تجمعه بهم لتحفيزهم وتعليمهم النظام بشكل عملي.
وقال إن من أهم عوامل نجاح ماليزيا في عبور الأزمات هو التأكيد على أهمية الحوار بين القيادات وبين أبناء الشعب، فمع تعرض بلاده لأي أزمة كانت أولى الحلول المطروحة هي إجراء حوار مفتوح بين القيادات وبين الناس حول المشكلة وكيفية مواجهتها والاشتراك سويا في الحل، بحيث تحدث مشاركة شعبية في اتخاذ القرار اللازم للخروج من الأزمة، حتى إنه كان يتسوق ويقود سيارته بنفسه حتى زجاج السيارة لم يكن عازلا عن الناس، وبالتالي كان من أهم أسباب الإطاحة بالرئيس السابق حسنى مبارك هو الفجوة الكبيرة التي حدثت بينه وبين شعبه.
2- وعن رؤيته للثورات العربية ودور مصر فيها، قال إن المنطقة العربية في حالة من التوتر وفى الوقت ذاته في حالة ترقب لما تسفر عنه الثورة المصرية، وبالتالي ليس هناك فرصة لفشل مصر بعد الثورة لأن ذلك سيؤثر بالسلب على جميع دول المنطقة وأن المستقبل سيكون في غاية السوء.
وبالنسبة للإجراءات التي تتم بعد الثورة يرى أنه لابد من إعطاء فرصة كافية للقضاء المصري لضمان العدالة ولكن بشرط أن تسير هذه الإجراءات في مسارها الطبيعي بالنسبة للوقت وأن لا يكون هناك تباطؤ أو مماطلة وهذا هو الضمان ليأخذ كل ذي حق حقه.
3- أما عن اقتصاد مصر وأهم المجالات التي يجب الاستثمار فيها قال، إن مصر تعتمد بشكل أساسى على السياحة وهو ما يضر بالاقتصاد المصري، لأن الاعتماد على مورد واحد بالتأكيد يعرض اقتصاد البلد لانهيار سريع إذا انهار هذا المورد، وهذا ما حدث بالفعل بعد الثورة وبالتالي الأفضل لمصر التوجه ناحية الصناعة خاصة الصناعة كثيفة العمالة حتى نتيح أكبر قدر من فرص العمل الجديدة وبالتالي القضاء على البطالة.
4- وبالنسبة لسياسة الاقتراض فهو لا يؤمن بها إطلاقا وعندما واجهت بلاده الأزمة الشهيرة التي ضربت دول النمور الآسيوية عام 1997 رفض اللجوء لصندوق النقد أو البنك الدوليين والاقتراض منهما، واتبع روشته وطنيه بنسبة 100% اعتمد فيها على موارده المحلية وطبق سياسة تقشفية شملت كبار الموظفين بالدولة، وهو ما يمكن تطبيقه في مصر كما يرى أن الضرائب وسيلة هامة وخاصة الضريبة التصاعدية على الأغنياء، وبالرغم من ذلك لم ينصح بالضرائب على الاستثمار الأجنبى وذلك تشجيعا لهذا المورد الهام الذي يلعب دورا كبيرا في النهوض بالاقتصاد، كما أكد على أهمية الادخار باعتباره أحد أهم الموارد المحلية التي من الممكن أن تنهض بالاقتصاد.
5- أما عن أهم موارد الاقتصاد التي ساهمت في النهضة الماليزية أكد د. مهاتير على أنه رغم الاهتمام الكبير الذي أولته الدولة لقطاع الصناعة والذي يشارك بنسبة 90 % بالاشتراك مع قطاع الخدمات، حيث تنتج ماليزيا 85 % من صناعة السيارات في ماليزيا، وبالرغم من أنها تحولت إلى بلد صناعي إلا أنها لم تهمل القطاع الزراعي، حيث تعد ماليزيا من أكبر الدول المصدره لزيت النخيل والمطاط، وبالنسبة لمصر يرى أن بها مساحات شاسعة من الأراضى الصحراوية التي يمكن الاستفادة منها في زيادة الرقعة الزراعية.
6- وعن مواجهة الفساد قال د. مهاتير إن ماليزيا لديها أنظمة وقوانين لضبط الفساد أولا بأول مما يصعب معه التلاعب، كما تؤدى السرعة في أداء الإجراءات الحكومية إلى قطع الطريق على المرتشين في المساومة على أداء الخدمة، وخاصة إنه يوجد مؤسسة متخصصة لاستقبال شكاوى الناس وسرعة البت فيها.
7- بالنسبة للتعليم قال إن ماليزيا استفادت من الخبرات الخارجية وخاصة اليابان ووجهت إليها طلابها للتعليم والتدريب ولنقل الخبرات في مجال التكنولوجيا التي هي أساس التقدم الحديث كما يوجد 4000 طالب ماليزي يدرسون الطب في مصر وهو ما يعنى التميز الذي تحظى به مصر في هذا المجال الذي يجب استثماره بشكل جيد.
كما أصبحت ماليزيا الآن مقصدا تعليميا عالميا يتوجه إليه الطلاب من جميع أنحاء العالم، حيث يوجد الآن حوالي 100 ألف طالب أجنبي من حوالي 100 دولة مختلفة، كما ارتفع عدد الجامعات في عهده إلى 80 جامعة من خمس جامعات عند توليه السلطة، وتصنف بعض الجامعات الماليزية ضمن أول 200 جامعة عالمية، وتخصص الدولة 25% من ميزانيتها سنويا للتعليم وتهتم بشكل أساسى بتعليم تكنولوجيا المعلومات باعتبارها وسيلة الاتصال بالعالم الخارجي.
كما تخصص الميزانيات الضخمة للبحث العلمي التي تركز على منتجاتهم بشكل أساسى حيث زاد إنتاج شجرة المطاط عشر مرات وبالنسبة لزيت النخيل أصبحت إنتاجيته بعد أربع سنوات بعد إن كان بعد سبع سنوات نتيجة الأبحاث.
أما عن الإغراق الصيني فبالرغم من التخوف الذي يبديه العالم اليوم منه إلا أن ماليزيا استخدمت المنتجات الصينية كمدخلات إنتاج بالنسبة للسلع الماليزية بدلا من شراء المنتج كامل وبذلك وظفنا الإغراق الصيني لصالح احتياجينا.
8- أما عن وضع الإسلام في ماليزيا وكيف استطاع توظيفه لصالح التنمية، أوضح د. مهاتير محمد إن الإسلام به كل القيم الإيجابية التي تدعو إلى العدل والمساواة وأهمية العلم و العمل، ولأن الإسلام في ماليزيا منهج وطريقه كاملة للحياة كان لابد من من استخدامه كوسيلة للتقدم وفي بناء الإنسان المسلح بالعلم والمؤهل للعمل والملتزم بممارسة العدل والمساواة مع الأخر، أى تحويل القيم الإسلامية إلى سلوك عملي وليس مجرد شعارات أو مظاهر خارجية أساءت للإسلام ولم تنصفه.
و عن طريق دراسة القرآن وفهم معانيه وجوهره الذي يدعوا إلى الإخاء وينبذ الخلاف أو محاربة بعضنا مثل ما يحدث بين الشيعة والسنة أو بين الفئات المختلفة، حيث هذه خلافات بشرية لا صلة لها بالإسلام، تم ترسيخ هذه المعاني بين الماليزيين، وهذا ما أعطى صورة طيبة للإنسان الماليزي المتسامح مع الأخر وهو ما أظهر الوجه المعتدل للإسلام.
9- وحول مستقبل مصر وكيفية التخطيط له يرى إنه من المهم تحديد رؤية للمستقبل ورسم السياسات التي تتفق مع واقع ومعطيات البلاد وما يتوافق معها وهذا ما سيحدد هل ستكون بلدا زراعيا أم صناعيا.
وعن مدى استفادة مصر من التجربة الماليزية أوضح أن لكل دولة ظروفها وإمكانياتها التي تلائم واقعها ولكن من الممكن الاستفادة من التجارب الناجحة في الجوانب المتشابهة وبالتالي هناك أكثر من نموذج يمكن دراسة تجربته، فإلى جانب الماليزي يوجد النموذج التركي والبرازيلي.
10 – أما عن أخطر القضايا المطروحة على الساحة الآن في مصر وهى الديمقراطية ووجهة نظره فيها أكد أن الديمقراطية لا يجب تطبيقها بشكل مطلق وإنما يجب مراعاة أن لا تتحول إلى فوضى وأن يكون هناك حدود للحريات، ولذلك يجب فهمها الفهم الصحيح وتعلم إن الديمقراطية تعنى أن هناك طرفان أحدهم يكسب والأخر يخسر وبالتالي يجب أن يتراضى الطرفان دون صراع وإلا ستكون نتائجها عكسية.
وأما عن علاقات ماليزيا مع إسرائيل قال إنه لا يوجد علاقات سياسية أو اقتصادية مع إسرائيل نظرا لسياستها الظالمة تجاه القضية الفلسطينية.
ونخلص من العرض السابق لأهم آراء ومقترحات د.مهاتير محمد إلى إن ماليزيا أولت الإنسان اهتماما كبيرا واعتبرت أن الاستثمار في البشر هو أهم دعائم التنمية الحقيقية، ومن هنا ركزت على الجوانب التي تنهض بالإنسان علميا واقتصاديا واجتماعيا وخلقيا.
كما استطاع أن يغير منظومة القيم عن الماليزيين الذين كانوا يتسموا بالكسل فقال إن مفتاح التنمية هي طباع العمل ولاحظنا أن اليابان نشطين ومنظمين ويحددون أهداف لعملهم ثم بحث النتائج التي تحققت ونحن تبعنا أخلاقيات العمل عندهم وهذا ما جعل اليابان أكثر نجاحا ونحن تبعنا خطاهم.
وبالنسبة لمصر فهي تملك ثروة بشرية كبيرة يجب استثمارها والنهوض بها على جميع المستويات وأن يكون هذا الهدف هو أولى الاولويات التي يجب أن يضعها أى رئيس قادم لمصر على رأس برنامجه الآنتخابي، وأن يكون هذا هو الهدف الذي يقوم على أساسه أى حزب سياسي.
وفى قضية من أهم القضايا التي تعيق التنمية في أى دولة وهى وجود أعراق أو أطياف مختلفة داخل الدولة، استطاع مهاتير محمد بفضل مواهبه القيادية والفكرية أن يجمع شمل شعب متعدد الأعراق والثقافات والديانات (التي تشمل إلى جانب الإسلام الدين الإلهى الخاتم ديانات وضعها بشر كالبوذية التي يدين بها الصينيين والهندوسية التي يدين بها الهنود) على هدف واحد بحيث يعيش المجتمع الماليزي الآن حالة من الانسجام والوئام العرقي حققت للبلاد الاستقرار والأمن الذي مكنها من جذب الاستثمارات الأجنبية وتحقيق التنمية بجميع صورها.
وبالرغم من انحياز مهاتير إلى شعب المالاى المسلم العرق الأضعف والأفقر إلا إنه طبق سياسة عادلة تجاه باقي الأعراق بما يقوى الشعور بالقومية بالماليزية عند جميع الأعراق ليلتقي الجميع حول وعى واحد بالعيش المشترك.
وإذا نظرنا إلى ما صنعه مهاتير يظهر سؤال هام لماذا إلى الآن تعانى مصر من الفتن الطائفية بالرغم من إننا كشعب لا يوجد اختلاف بيننا إلا في الديانة وهى ديانة سماوية وصى بأهلها كثيرا القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والإجابة بالطبع ليست المشكلة الحقيقية هو اختلاف الدين وإنما فساد القيادة في زمن حسنى مبارك وضعف القيادة بعد الثورة وعدم قدرتها على إدارة الأزمات بالرغم من وطنيتها التي لا ينكرها أحد، وما نحتاجه في المستقبل قيادة قوية قادرة على تحليل المشكلات ووضع الحلول لها قبل استفحالها كما يحدث من حالنا الآن.
كما يجب على القيادة المصرية الحالية أو المستقبلية أن تولى اهتمام كبير للعلاقات المصرية الماليزية خاصة لما لمسناه من الاستعداد الكبير الذي أبداه د مهاتير محمد من استعداد بلاده الكبير للمساهمة في أى مشروعات أو مبادرات تستهدف نهضة علمية واقتصادية لمصر سواء من خلال الدعم المادي أو من خلال ما لديها من خبرات وكوادر علمية.
ومن جانبه أشاد د. مهاتير بدور رئيس الوزراء المصري د. عصام شرف بالاستجابة السريعة لحل أزمة المركب الماليزي المتوجه لغزة وتم احتجازها من جهة السلطات المصرية، وهو ما يدلل على عمق العلاقات المصرية الماليزية.
ـــــــــــ
* باحثة اقتصادية حاصلة على الماجستير في التجربة الماليزية.

ليست هناك تعليقات: