بانجو على ارواح الشهداء



( أحيانا يدفعك خيالك لمشاهدة أحد هواجسه ! فتوافقه ..لأنك تعلم أنك في النهاية لن يصيبك منه ضرر ، وقد يجبرك أيضا علي قضاء بعض اللحظات في أحد فصوله المرعبة أثناء نومك ! فلا تمانع .. لأنك سرعان ما تستيقظ وتتناسي ما حدث لك مع أول نقطة مياه تنزل علي وجهك ، ويقودك أحيانا أخري للسبح في أعماقه البعيدة ! فتعود منها .. بمجرد أن تسنح لك الفرصة هروبا من موجه العالي الذي قد ينتهي بك الي الهاوية ، ولكنك لبعض الوقت تضطر للوقوف في وجه اقتراحاته وتضطر لمعاملته كالشاب المراهق الذي لابد أن تفرض عليه قيودا كثيرة لتمنعه من ايذاء نفسه ومن حوله ) ؛ وشأن خيالي مثل كثيرين، دعاني الي عمل شئ غريب لم أتوقع أن يطلبه مني ، فلو أنه طلب مني الجلوس وسط ( قعدة أنس ) وطلب مني (شرب حجرين) لكنت وافقته ـ علي الرغم من أنني لم يسبق لي شرب سيجارة عادية ، ولو طلب مني عمل حوار مع تاجر مخدرات والخروج معه في تسليم صفقة ، كنت سوف أسعي للوصول معه الي حل وسط ، ولو صمم علي ذلك لفعلت ، ولكن أن يطلب مني قضاء يوم وسط مزرعة بانجو مع صاحبها في اعلي قمم جبال شمال سيناء ، فلن يكون أمامي في هذه الحالة سوي الرفض القاطع والنهائي لأن ( العمر مش بعزقة ) ، ولكن أمام اقتراحه بمصاحبتي في هذه المغامرة بعد أن اقوم بالترتيب لها ، وخوفا من أن يتهمني بالجبن والخوف ، اضطررت للموافقة ، وكان لي شرط واحد هو أن ينتظرني حتي أتوب عن ذنوبي الكثيرة ، وخاصة أنني مقبل علي تسليم روحي الي بارئها ؛ لم أجد أمامي سوي الاتصال بأحد مصادري في سيناء والذي دائما ما ألجأ اليه في مثل هذه الحالات ، وبمجرد أن سمعني أقول له إن لي عنده خدمه ، رد علي بإجابة بعثت في نفسي الطمأنينة عندما قال لي ( لو طلبت لبن العصفور هجيب هولك ) ، ولكن هذه الطمأنينة سرعان ما تبددت بمجرد عرض الموضوع عليه ، حيث حمل صوته صدمة مشبعة بالخوف والقلق
، صاحبها عبارة ( مستحيل ) ، وتلاها العديد من الأسئلة عن التفكير في عمل مثل هذا الموضوع ، لدرجة أنني خشيت من أن يفقدني الثقة ، علي الرغم من الصداقة الكبيرة التي تربطني به، سارعته بالاجابة أنها مجرد فكرة طارئة، هتفت بعقلي أثناء حديثي معه للاطمئنان عليه ، وبسرعة تحولت بالحديث معه الي موضوع آخر، وقبل أن أنهي اتصالي معه والذي استمر ما يزيد علي نصف الساعة، طلبت منه أن يحتفظ بالفكرة في زهنه لعل وعسي أن نستطيع تنفيذها، ثم داعبته بقولي ( ماتخافشي هاننفع صاحب المزرعة اللي هانروحله)،فرد علي مسرعا ( تتقمص شخصية تاجر ) فبادرته بالموافقه، ولكنه سرعان ما وضع أمامي العديد من العراقيل والتحفظات منها سني الصغيرة بالإضافة الي انعدام خبرتي ، حاولت إقناعه بأن هذه المشاكل من الممكن التغلب عليها ؛ ثم سألته عن كيفية التصوير ؟ فكان سؤالي ختاما للمكالمة بعد أن اكد لي استحالة حمل كاميرا او تليفون محمول لأنني سوف أخضع للتفتيش قبل الصعود الي المزرعة؛ أصبح تحقيق ما أسعي اليه في نطاق المستحيل ، وجلست أبحث عن طريقة أخري ، ولكن دون ان أصل اليها ، وفي تمام الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ، تلقيت اتصالا من صديقي السيناوي ، وفوجئت به يتحدث معي علي أنني تاجر مخدرات ، وسألني عن الموعد المناسب لتعيين البضاعة ، فأدركت أنه يجلس مع صاحب المزرعة أو مع من ينوبه ، ثم قال لي (خلاص هسيبك تظبط وقتك وهنتظر منك تليفون ) وانتهت المكالمة ، جلست علي سرير نومي أفكر في أبعاد المكالمة وحاولت توقع نسبة عمل التحقيق الصحفي ولكني لم أستطع ، دقائق وسمعت صوت مؤذن المسجد القريب مني يرفع أذان صلاة الفجر، توضأت وخرجت لأداء الصلاة ، وأخذت معي تليفوني المحمول تحسبا لتلقي أتصال آخر منه ، وبالفعل بمجرد انتهاء الصلاه وقبل أن أهم بالخروج من المسجد تلقيت اتصالا آخر منه ، بادرني فيه بقوله ( حرما ) ، سألته عن مغزي اتصاله الأخير فأخبرني بأن له صديق يمتلك مزرعة بانجو ، وأثناء حديثه معه ـ بالصدفة ـ
اشتكي من ركود سوق التوزيع بسبب تحول التجار للعمل في الحشيش بدلا من البانجو ، فأخبرته بأن لي صديقا شابا ( لسه داخل في الكار جديد ) ـ يقصدني ـ يعمل في مجال السياحه وله صله بعدد من الأجانب الذين طلبوا منه ( بانجو طازة )، ثم قلت له إن هذا الشاب ليس له خبرة ولا يعرف شجرة البانجو من شجرة الملوخية، وكل ما هنالك أنه سوف يبيع للأجانب بسعر أعلي من الذي يشتري به، ثم سألني عن مدي ثقتي بك ، فأكدت له أنك أبن صديق قديم أعرفه منذ أكثر من 30عاما ،سألت صديقي عن رد فعل صاحب المزرعة فقال : رد علي بالموافقة
وانه ليس لديه مانع ومستعد لمقابلتك بعد شهر تقريبا ، حتي ينتهي من جني المحصول ، فقلت له إنك تشترط التقاط صورة داخل المزرعة لأنك في حاجة الي عرضها علي أصدقائك الأجانب ، فسارع بالرفض قائلا ( كده أحنا هانكشفله نفسنا ) ولكنني طمأنته وأخبرته بأني (أضمنك برقبتي) وأنني المسئول في حالة حدوث أي ضرر ، ثم عرضت عليه ألا يكون في انتظارك ، علي أن أصطحبك بسيارتي الخاصة الي المزرعة ، ولكنه عاد ووافق علي أن يستقبلك بعد وعود الضمان الكثيرة التي قدمتها له ، وقبل أن أنهي مكالمتي مع الدليل سألته عن موعد المقابلة ؟ فأخبرني به ، ثم شدد علي عدم الإشارة الي صديقه صاحب المزرعة أو ايذائه، وذكرني بثمن الخيانه في العرف البدوي ، طمأنته وأكدت له بأن التحقيق سوف يكون مجرد اعادة فتح هذا الملف الخطيردون المساس أو الاشارة الي أشخاص بعينهم ، وسألته عن الضرر الواقع عليه في حالة مشاهدة صاحب المزرعة للتحقيق بعد نشره ؟ فقال: ( طالما مافيش ضرر ما تقلقشي ) ثم داعبني بقوله ( وبعدين احنا خدامين الوفد ) ـ فضلت أن أسافر قبل الموعد المحدد للمقابله بيوم كامل وأن أبيت ليلتي في مدينة العريش، وأسرعت بالاتصال بالزميل خالد الشريف مراسل الجريدة في شمال سيناء وأخبرته بأنني في طريقي إليه ، سألني عن التحقيق الصحفي الذي أريد عمله، فأخبرته بما حدث ، فأكد لي صعوبة انجاز هذا الموضوع لأسباب عديدة فضل أن يحتفظ بها لحين الوصول أليه ، ثم عرض علي عدداً من الموضوعات الصحفية البديلة ، ومن مقر الجريدة في ( الدقي ) اصطحبني الزميل ( محمد يوسف ) السائق الذي ابتهج كثيرا بمعرفة موضوع الرحلة لأسباب لم يوضحها لي ، وفتح العنان لعداد سيارته ليتجاوز 140 كم ، متجهين الي أرض الفيروز في رحلة عمل حذرني منها الكثيرون .
الحشيش يقضى على البانجو
سألت ( صاحب المزرعة ) عن الثمن الذي يريده في المحصول، وعلي ما يبدو أن سؤالي هذا أوضح له جهلي بالكار، لذلك قرر (يعمل معايا واجب ) ويطلعني علي معلومات كافية عن البانجو وزراعته ، حتي أتمكن من ( أكل لقمة عيش ) من وراء تجارته ، توجهت اليه بالشكر وحاولت تدوين كل ما قاله في ذهني وخاصة أنه طلب مني عدم مقاطعته وبدأ حديثه، البانجو محصول شتوي وصيفي ويصلح في كافة الظروف الجوية ، الشتوي يمكث في الأرض لفترة تتراوح ما بين 4 الي 6 شهور وتبدأ زراعته في الفترة من شهر سبتمبر وحتي شهر مارس ، أما الصيفي فيحتاج الي فترة تتراوح ما بين 70
الي 100 يوم ، يعتمد في الري علي مياه الآبار. الي يقوم صاحب المزرعة بإنشائها قبل البدء في الزراعة ويمتد التي 100 متر تحت الأرض ، ـ وفي حالة جفافها تكون سيارات المياه المتحركة هي البديل رغم صعوبة صعودها الي الجبل ، وفي الشتاء يعتمد المحصول علي مياه الأمطار، سنبلة المحصول تسمي ( عرنوس ) ويختلف سعر الكيلو ، حسب موسم البيع ، ويبدأ سعر الكيلو من 25 جنيها وحتي 300 جنيه ، أكثر المحافظات المستهلكة له ( القليوبية والإسماعيلية) والتاجر السيناوي لا ينزل بمحصوله من الجبل ، انتاجية المحصول تحسب بمقياس ( الربع ) وهو عبارة عن 100 خط بطول 25 متراً ، عرض 50مترا، وينتج حوالي 400 كم ، يحتاج الي التعرض للشمس لمدة أسبوع علي الأقل قبل التخزين ، ثم يوضع في قراطيس ، ولابد من بيعه قبل مرور ثلاثة أشهر عليه حتي لا يفسد، أشهر الدول المصدرة لبذوره ( أفغانستان وباكستان ) أقل الأنواع جودة ( الدكر) و(شقر ) و ( ضفر الكلب ) سألته عن كيفية حماية المحصول في المزرعة فقال : صاحب المزرعة لا يتركها للحظة واحدة منذ وضع البذور في الأرض وحتي جني المحصول ، ويكون مسلح ومعه عدد من أهل بيته ، بالأضافة الي اشتراكه مع آخرين في أقامة ( كوخ ) يتجمعون فيه لتبادل الحراسة، ثم اشتكي بشدة من حالة الركود التي ضربت السوق بسبب هجر التجار له واتجاههم الي ( الحشيش) ،لم أقاطعة وانتظرت حتي انتهي من حديثه ، ثم أخبرته بأنني سوف أقوم بالرد عليه في الكمية التي سوف أشتريها منه، فطلب مني التأني والتفكير قبل الدخول الي هذا العالم الخطير، سألته عن السبب فقال : أنت لا تمتلك أرضاً ولا سلاحاً ولا رجالاً ، ويبدو عليك ( ابن ناس ) وبعيد عن الشقاوة ، كنا قد انتهينا من شرب ( الشاي ) الذي أعده لنا ، وطلب مني ( الدليل ) الاستعداد للنزول ، توجهت بالشكر الي صاحب المزرعة الذي طلب مني النظر والتأمل في كل ما يحيط بي ، ثم قال ( المكان اللي انت واقف فيه ده مش هاتشوفه تاني ولا في الحلم ، ولو عايز تاخد بنصيحة رجل دهسته السنين بلاش تحاول تشوفه تاني ، هم من مكانه وهو يبتسم وقال وهو يلوح بيده بتحية الوداع ( عمرك سمعت عن حد طلع الجبل مرتين وعاود )عانقته وأنا أبتسم وقلت له ( أنا )، وبمجرد الأنصراف من أمامه تملكتني حالة غريبة جمعت بين الفرحة لانتهائي من تحقيقي الصحفي، وحزن شديد عن ضياع دماء الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم من أجل استعادة كل شبر من تراب سيناء الغالية لتكون ملكاً للمصريين ومصدر نفع لهم ، لا أن تتحول الي مزارع للسموم لضياع أبنائنا .

ليست هناك تعليقات: